السبت، 8 نوفمبر 2008

نحو فهم القدر - الانسان مخير أم مسير ؟

لطالما شعرت بالذهول كلما فكرت بالقدر.
فعندما ينجز امرؤ ما رواية يرسم فيها مسار شخصياتها, تتوالى عليه التهاني ويعلو شأنه في نفسه كما لو كان الانجاز غير مسبوق, فكيف اذا نظرنا الى انجاز القوة العظمى في هذا الكون لرواية ليس لها مثيل هي رواية البشرية بالمليارات من أفرادها الذين توالوا على الأرض منذ آدم أول البشر حتى الوقت الحالي.
السؤال الأهم هو : هل تتعارض فكرة القدر مع عدالة الله ؟
فالبعض يقول أنه ان كان مقدرا لأنس أن يختم مشواره في الدنيا وهو كافر, فأين العدالة ان كان قد كتب عليه أن يكون كذلك ولم يكن له الخيار. والبعض الآخر يقول أن الانسان مخير دون أن يوفق في ربط ذلك بالقدر على الأقل ليس بقدر عال من الوضوح. الحقيقة هي أني أميل الى الفئة الثانية والهدف هو الوصول الى فهم أعمق لفكرة القدر والتوفيق بينها وبين تخيير الانسان في اعماله. اذا ما أردنا أن نتصور القدر بما نملك من مفاهيم وادراكات, لكان خريطة عظيمة التشعب ليس بامكان أي أنس أن يفهمها أو يحيط علمه بكاملها. الخريطة مكونة في لحظة ما من خطوط عريضة بالمليارات يمثل كل منها مسار فرد من البشر منذ ولادته الى اللحظة المشار اليها. كل تلك الخطوط متشابكة مع بعضها نظرا لتشابك حيوات البشر, وكل نقطة منها تشكل زمنا ما بكل تفاصيله من مكان وظروف أخرى, وتشابك خطين عريضين على سبيل المثال يعني اجتماع فردين في زمن ما, مما يعني في مكان وظروف معينة. كذلك فاقتراب خطين من بعضهما يعني تقارب الظروف التي يعيشها الفردان واذا كان التشابك والاقتراب كثيري الحدوث فذلك لا بد أن يعني أن للفردين صلة قرابة أو صداقة, واذا كانا دائمين فلا بد أن الفردين هما في الحقيقة زوجان.


بالعودة الى الخريطة, فالخط العريض يرمز اذا الى حياة الفرد السابقة للحاضر, ونهاية الخط التي هي عبارة عن نقطة كبيرة فهي ترمز الى الحاضر. انطلاقا من تلك النقطة هناك العديد من الخطوط الرفيعة الموصولة بها التي تمثل المسارات المحتملة للفرد في المستقبل, واستحالة أحد الخطوط الرفيعة الى امتداد للخط العريض ما هو في الحقيقة الا اختيار قام به الفرد في الحاضر, فتعدد الخطوط الرفيعة المنطلقة من نقطة الحاضر هي افساح للمرء ليختار, أي أن الانسان مخير وليس مسيرا. فالأمانة التي حصل عليها الانسان من الله هي الحكمة والعقل, والوصية التي أوصي بها هي أن يتبع سبيلا معينا الذي هو بكل بساطة السبيل الأفضل أيا كانت تسمياته سواء قلنا سبيل الله أو صراط الحق أو الصراط المستقيم ... والحقيقة هي أن الأمانة مسؤولية كبيرة فمن يتجاهلها أو لا يستخدمها بشكل صحيح يهلك, وما من أحد يستطيع أن يخرج من متاهة القدر -الخريطة- بسلام الا باستخدام عقله وحكمته مهما كان قدرالحكمة التي يملكها صغيرا.
قد رمي الانسان في متاهة ووهب أداة هي العقل تمكنه من اجتياز المتاهة. بالطبع ما من انسان يستطيع أن يتبع الصراط المستقيم بكامله, فما من انسان معصوم كي يقوم بالخيارات المناسبة في كل لحظة, وما من انسان يعلم الغيب كي يعلم بالتالي ما هو الخط الرفيع الأمثل الذي يؤدي الى النجاة. ولكن الحقيقة هي أن النجاة ليست في اتباع صراط الحق بكل نقاطة الكبيرة, بل في الرجوع الى ذلك الصراط كلما ارتأى المرء بحكمته أنه ابتعد عنه. النجاة ليست في عدم ارتكاب الأخطاء بل بتصحيح الأخطاء المرتكبة للعودة الى السبيل الأفضل والأمثل. اما الموت فما هو الا الوصول الى نقطة ما, ينتهي عندها الخط العريض وتنتفي بعدها الخطوط الرفيعة. انه نقطة النهاية لفرد ما في الخريطة العظمى التي هي القدر. وأما ولادة طفل جديد فما هي الا بداية خط عريض جديد –حياة جديدة- من نقطة ما, تنتمي الى خط عريض آخر يرمز الى حياة الأم.

وبالنهاية نصل مع هذا التصور للقدر الى فهم آيتين من كتاب الله, رأى فيهما بعض العميان والجاهلين فوزا لهم لاعتقادهم أنهم وجدوا اختلافا في الكتاب, والآيتان هما في سورة النساء :
4-78 : ان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله
4-79 : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك

الآية الأولى تقول أن كل شيء من عند الله فهو الذي وضع خريطة القدر وهو الذي بدأ كل شيء, اذا فالكل من عنده. كل ما يحدث للمرء من حسنات وسيئات هو حدث بحد ذاته ينتمي الى زمن ما, أي الى نقطة ما في الخريطة التي وضعت من قبل الله, اذا كلها من عند الله "بالأصل" مما قد قد يفسر اتيان هذه الآية قبل الثانية التي تقول أولا أن ما يحدث من حسنة فمن الله, وهذا أكيد فان وصل بشر الى نقطة حسنة في حياته نظرا لحكمته ورزانته فذلك لأن الله أوجد تلك النقطة في الخريطة. وثانيا تقول الآية أن ما يحدث من سيئة فمن المرء نفسه, وهذا طبيعي فلو استخدم عقله جيدا لاتخذ الخيارات المناسبة ولاتبع الطريق الأمثل لتوصله الى الخير والحسنة.

اذا ما من اختلاف في الكتاب ولكن للأسف فبعض الناس لا يفقهون حديثا ولن يفهموا الكتاب ولو بمليون عام. والخلاصة هي أن الله يأبى للانسان الشر ويأبى له الهلاك, فان أراد هذا الأخير النجاة كل ما عليه أن يقوم به هو استخدام عقله وحكمته للقيام بالخيارات المثلى. واذا كان هناك من أحد يلام على رداءة الموقف التي وصلنا اليها فهو الانسان نفسه. فهل يعود كل بشر الى صراط الحق كي نصل الى النجاة ؟


وفي الختام سيبقى بعض الأشخاص يأبون الا أن تعلو أصواتهم على كتاب الله ليقولوا العديد من الأشياء. الأهم أنهم سيقولوا أن الله يعلم كل شاردة وواردة وبالتالي يعلم كل ما قد يتخذه البشر من خيارات وبالتالي يعلم مصير كل انسان لأنه يعلم الغيب. لهؤلاء أقول :
أولا أتلومون الله لأنه عليم بالأمور ولا تلومون أنفسكم لارتكاب الأخطاء ؟
ثانيا أتتوقعون من الله بعد علمه بمصائر الناس أن يتدخل كي ينقذ جاحدا لنعمته من الهلاك ؟
أيستحق هكذا امرئ أن ينقذه الله ؟
والسلام .


كتبت بتاريخ الاثنين 6 تشرين الأول أوكتوبر 2008

مناقشة الموضوع
هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق