السبت، 8 نوفمبر 2008

رؤيا

كانت ليلة من ليالي نيسان غير كل الليالي. ليلة توقف فيها الزمن ومارت الأرض وحارت الطيور. منذ لحظة دخولي الباب, شعرت بأطياف تتهادى من حولي, ولحظت أن السراج يشحب نوره تارة ويقوى تارة أخرى. جمد الدم في عروقي وتسارعت دقات قلبي, ﺇذ كأني رأيت جنودا متشحين بالظلام يتنقلون في أرجاء النزل وكأني سمعت قلقلة سيوف وخناجر. تجلدت فلا بد أنها أوهام قد اصطنعتها نفسي المنهكة بعد هذا اليوم الحار. توجهت رأسا ﺇلى غرفتي. كان السكون سائدا وكانت النفوس تحلم والعقول ترقد. وما ﺇن وطأت داخل الغرفة بقدم ثابتة حتى انطبعت صفعة على وجهي كان وقعها كالصاعقة. ما شهدت أبدا شيئا مثيلا من قبل وحتى الآن لا أدري من كان ذلك. كل ما أعلمه هو أني انسلخت عن العالم وانفصلت عن جسدي. فبعد أن أفقت من صدمتي, وجدت جسدي ملقى على الأرض ولم أبصر أحدا في الغرفة.

حدث الأمر بهذه البساطة ...
في ليلة من الليالي, امتدت يد القدر لتصفعني في قلب الظلام ... جرّدتني من المادة وألبستني ثوب الأشباح ... فصلتني عن الأرض ومزجت روحي بذرات الأثير ... عندما نظرت من حولي وجدت عالما غريبا عن حواسي ... شحبت الألوان وتداخلت الأبعاد ببعضها ... هي لحظة واحدة أحسست فيها بثقل كل أيامي السالفة ... لحظة أشعلت لهيب اللوعة في نفسي ... لم أكن موجودا في قلب العالم ... بل الكون بأسره قد دخل الى قلبي ... فأصبحت أرى ما لا يرى البشر وأسمع ما لا يسمعون ... وما هي ﺇلا دقائق حتى وصلتني أنفاس الراحلين الجدد ... شعرت بكل آلامهم وهواجسهم وراقبت شعلات أرواحهم تشحب شيئا فشيئا حتى تنطفئ فتتركني في حيرة من أمري.

هذا هو بحر الحياة ... ما أجمله وما أهيبه !!
قطرات جديدة تنهمر مقابل كل قطرة تتبخر, وشعلات مضيئة تظهر مقابل كل شعلة تنطفئ. أنصتّ جيدا فسمعت دعاءا تترنم به نفس قانتة من ﺇحدى أصقاع الأرض. فحملت كياني ﺇليها علّني أستجلي ما كان من أمرها وأستنطق ما سيكون من مصيرها. وعندما حطيت رحالي في تلك الغرفة القاتمة هابني المشهد ...
وجدت بشراﹰ على فراش الموت قد اصفرّ وجهه كأوراق الشجر في الخريف
ووهنت نفسه كما هي حال الأنهار في الصيف. لم يكن معه في ذلك المكان سوى ابنته التي أوحى ﺇلي الأثير أنها وحيدته الباقية من بعده, ﺇذ توفيت أمّها منذ سنوات خلت. لم أجد أي أثر لطبيب مرّ في هذا المكان واستنتجت من فقر الرجل أنه ربما لم يأتﹺ قط. نظرت الى الفتاة فوجدتها في حال يرثى لها, قد ذرفت من الدموع ما كان ليروي أزهار الأرض بأسرها. كانت تحضن والدها المحتضر وتهمس له بين الفينة والأخرى كلمات تتوسّل فيها ﺇليه أن يجيبها دون أن يلقى ذلك صدى.
كان الرجل يهذي ويتمتم بصوت ضعيف مخنوق. فأنصتّ اليه :
" اللهمّ أنت الله الذي لا ﺇله ﺇلا أنت,
الأول بلا أول كان قبلك,
والآخر بلا آخر يكون بعدك.
قد قصرت عن رؤيتك أبصار الناظرين, وعجزت عن نعتك أوهام الواصفين.
اللهمّ فآتني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقني عذاب النار ...
اللهمّ واجعلني من أصحاب اليمين عندما نلقاك يوم الدين.
اللهمّ واجعل من ذرّيتي أناسا صالحين, يذكرونني بالخير كلما سجدوا في فنائك ويدعون لي بالسلام ونعم المقام.
اللهمّ الحمد لك...
الحمد لك بكل ما حمدك به أدنى ملائكتك اليك وأكرم خليقتك عليك وأرضى حامديك لديك, حمدا يفضل سائر الحمد كفضلك يا الهي على جميع خلقك .. "
وما هي ﺇلا دقائق معدودة حتى لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة تاركا ابنته وحيدة في دنيا الفناء. ألفيتها في تلك اللحظة حائرة لا تدري ما تفعل وقد بلغ فيها الحزن مبلغا عظيما. ربما لم يتبق من دموع تذرفها على أبيها بعد أن بكت لساعات عديدة. أسفت على الفتاة المسكينة لكنّي كنت واثقا أن الله سيكون بجانبها.

بعدها أحسست بهواجس تخيّم على ﺇنس في بقعة أخرى من العالم, فما كان مني ﺇلا أن حملت نفسي الى مصدرها. كان المشهد مختلفا كليا. وجدتني في منزل كبير وكانت الغرفة التي يرقد فيها الرجل واسعة, توزع في أجنابها عدد ليس بقليل من الناس. الحزن مخيم على المشهد والنسوة كنّ يبكين. فأنصتّ جيدا الى الرجل ... لم يكن يتمتم ولكني سمعت جيدا ما كان يدور في ذهنه :
" لا أصدق أني على فراش الموت.
وأسفاه على هذه الحياة ... لقد مضى الوقت كالبرق.

ولكن ذلك ليس مهما, لقد حظيت بما أريد في هذه الدنيا.
ﺇني أهجرها وفي نفسي رضى.
على الأقل وجدت الراحة والسعادة وسعة الرزق, وقد متّعت نفسي بكل اللذات.
ﺇني أترك هذا العالم راضيا دون أن أندم على شيء.
ولكن لا ... لا ... أريد المزيد.
حبذا لو أعيش كل تلك اللذات مرة أخرى.
وماذا بعد الموت ؟؟ كم أخشى الموت !!
بل كم هو مهيب مجرد التفكير بالموت !!
لا أريد أن أفنى !! لا أريد أن أزول من الوجود !!
ﺇن الحياة لجميلة بل مجرد التفكير فيها يبعث في نفسي الأمل.
طيلة حياتي لم أؤمن بخالق لهذا الكون.
ولكن لو كان هناك أي أمل في استمراري فهو في الله.
كم أتمنى لو توجد حياة بعد الموت.
كم أتمنى لو كان الله فعلا موجودا !!
وتعساه عليّ !! ﺇن كان الله عادلا فلا بد من حساب.
لا ... ﺇني أكره فكرة الله. ﺇني أكره فكرة يوم الحساب.
ما هي ﺇلا أساطير ... لا بد أنها كذلك.
تبا كم أنا جزوع !! ماذا لو كان ذلك صحيحا ؟؟
لم أفعل أية حسنات في هذه الدنيا.
لم أساعد أي فقير ولا يتيم. لم أطعم جائعا ولم أكس مشردا.
كل ما فعلته هو تكديس الأموال.
وفي النهاية ماذا جنيت ؟؟ لا شيء !! لا شيء !!
حتى أولادي سينسوني بعد حين ولن تذكّرهم هذه الأموال بي ...
لن يقدم لي أولادي ولا أموالي ولا أملاكي شيئا.
واللذّات التي عشتها قد ولت الى غير رجعة.
سحقا !! لقد تملكني اليأس.
كم أكره الموت !! كم أكره المجهول !!
لا ... يقولون أنّ الله رحيم.
جل ما ينبغي أن أقوم به هو أن أطلب المغفرة.
كل ما يجب أن أفعله هو أن أتوب اليه.
آه ... يجب أن أفعل ذلك. يجب أن أسجد لربي.
لا أصدق أني لم أفعل ذلك قط في حياتي.
وأسفاه على هذه النفس المستكبرة !!
كل ذلك الوقت كنت أقول أنه ما من ﺇله.
كنت أستكبر على فكرة وجود خالق.
يجب أن أسجد له ... على الأقل مرة واحدة.
ولكن كيف أفعل ذلك وليس بامكاني حتى أن أغادر السرير. لقد قضي علي.
لا ... لا ... ما هي ﺇلا أساطير !! كلّ أولئك المرسلين لا يعنون لي شيئا.
ما من أحد يعلم ما بعد الموت ... ".
أطلق الرجل تنهيدة طويلة وصلت الى مسامع القريبين منه.
وبعد ذلك ببضع ثوان, تمتم قائلا :
" هل أستحق رحمة الله ؟؟
ﺇني أشقى الأشقياء ... ﺇني أتعس التعساء ... "
تركت المكان وفي نفسي أثر عظيم, ثم ما لبثت شعلة الرجل أن انطفأت.

استيقظت في الصباح الباكر لأجدني في سريري
وقد انطبعت في ذهني الكلمات التالية :
" هل أستحق رحمة الله ؟؟
ﺇني أشقى الأشقياء ... ﺇني أتعس التعساء ... "
تركني ذلك الحلم في حيرة من أمري.
بقيت وقتا طويلا أفكر في ما أصبحت عليه الفتاة المسكينة, وأتأمّل في مصير الرجل اليائس. وعندها أدركت أهمية الايمان. ومنذ ذلك الحين تغيّرت أحوالي تغيرا كبيرا. زاد يقيني وقرّت عيني, والفضل في ذلك كله لله.
وأصبحت عندي قناعة راسخة هي التالية :
" ربما لا أحد يعلم ما مصير الانسان بعد الموت,
بل ما من ﺇنس متيقّن مما ستؤول اليه حاله بعد الموت.
لكن الفرق في لحظة الفراق بين مختلف بني البشر, هو الفرق بين ﺇنس يدخل ساحة الموت دخول الشجعان ويغادرها بابتسامة أمل, وﺇنس يدخلها دخول الخائف الذليل ويغادرها جزوعا هلوعا يائسا.
ما الموت فناءا ... بل هو مسرحية يلعب فيها المؤمنون دور الأبطال. "

كتبت بتاريخ الأحد 3 كانون الأول ديسمبر 2006


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق