الخميس، 13 نوفمبر 2008

الحقيقة والعلم

"كل ما أعلمه هو أني لا أعلم شيئا",
"الكثير من التأمل وليس الكثير من المعرفة, هذا ما يجب أن نطمح اليه".

مؤسف جدا هو الوضع الذي وصلت اليه البشرية في الوقت الحالي, والأشد أسفا هو عمي معظم البشر عن الأسباب الرئيسية التي أدت اليه وتغاضي البعض القليل الذي يعلم بتلك الأسباب. اليقين في نظري هو أن سبب الويلات كلها انما هو الجهل الذي أصبح حال كل انسان, وادعاؤه مع ذلك للعلم. والحق أنه لو فقهت الشعوب حكم الغابرين حول الحقيقة والعلم, كاللتين جاءتا في المطلع -الأولى لسقراط والثانية لديموقريطوس- لتفادت تلك الشعوب وقوعها في شرك المضلين, سواء كان الأخيرون واعين وقاصدين لاضلالها أو لم يكونوا كذلك.

في ما يتعلق بالعلم فلا أحد ينكر أن ما يعلمه البشر حول الأسرار المادية للكون -أو بالأحرى ما يظن أنه يعلمه- انما هو قليل جدا مقارنة بمجموع الأسرار بأسرها, بل ان مقدارها هو لا نهائي ما من أنس بامكانه أن يحيط علمه بكامله. فعلى سبيل المثال, يقر العلماء الفلكيون أنه كلما زادت تقنيات العلم التي نملكها والتي نظن أنها سوف تساعدنا في الكشف عن المزيد من المجهولات, فهي في الحقيقة تكشف النقاب عن مجرات جديدة لا تحصى يزداد معها المجهول بشكل كبير.

لكن المهم ليس هنا, فالكل يوافق على هذه النقطة, بل المشكلة الأساسية هي في ما نظن أننا نعلم وفي العناد عليه كما لو أنه حقيقة مطلقة. فالأكيد أنه يخفى على معظم الناس أن ما يظنون أنهم يعلمون قد يكون بعيدا كل البعد عن الحقيقة, بل يمكنني الذهاب الى حد القول أنه في الكثير من الحالات ان لم يكن معظمها -باستثناء العلوم الوضعية التي لا تهدف الى دراسة الماديات الكونية كالرياضيات- فان العلم لن يصل بتاتا الى الحقيقة المطلقة مهما طالت مدة الأبحاث التي تطال هذا العلم, أعني بهذه الحقيقة علم الله نفسه للكون الذي خلقه. أعظم مثال على ذلك نجده في العلوم الفيزيائية بحيث بقيت النظرية الميكانيكية الكلاسيكية التي وضعها نيوتن بمنزلة المسلمات الى أن جاءت نظرية النسبية لأينشتاين لتنسفها نسفا كاملا. أما الآن فالأخيرة هي السائدة الى أن تأتي نظرية ثالثة لتنسفها هي الأخرى. قد لا يكون هناك نظرية ثالثة وقد تكون النسبية الأقرب الى الحقيقة, ولكن ليس هناك أي يقين في ذلك.

ويعود استحالة الوصول الى الحقيقة المطلقة في نظري الى طبيعة الانسان القاصرة أمام طبيعة الله, فالعقل البشري محدود القدرات لذلك احتاج الى زمن طويل للوصول الى التطور السائد في العالم حاليا. وفي اعتقادي أن هذه هي سنة الله, فليس من المفترض أصلا أن يصل الانسان الى أكثر من الحد الأدنى من العلم الذي يسمح له بالاستمرار في الحياة والا فلو كان نطاق علم العقل البشري غير محدود, لتمكن الانسان من بلوغ حدود الالوهية. من هنا نرى أن نظرية نيوتن كانت صالحة لفترة طويلة من الزمن, وقد مكنت الانسان من فهم نسبي للمحيط الذي يعيش فيه ومن الاستمرار, بينما كانت الحقيقة أنها ليست سوى حالة استثنائية محدودة بالنطاق الأرضي لنظرية النسبية الأوسع والأعمق والتي سمحت للانسان أن يفهم ما هو أبعد من الأرض وهو الفضاء الخارجي.

ولكن يبقى هنالك سؤال مهم, مهما كان علمنا قريبا أو بعيدا من الحقيقة, وهو : هل هدفنا الأساسي كجنس بشري هو السعي الى العلم, لا سيما الكثير منه ؟
الحقيقة هي أني أميل الى ديموقريطوس ميلا عظيما, من ناحية السعي الى التأمل الكثير وليس العلم الكثير وذلك لسببين.
الأول ورد في ما قبل وهو محدودية الحقيقة الكونية التي يمكن أن يصل اليها الانسان في سعيه. ومهما بلغت لهفته لاكتشاف المزيد سيبقى الكون عصيا على عقله, ولن يصل أبدا الى التحكم به والتمرد على القوانين التي تحكمه, حتى لو وصل الى مرحلة ظن فيها أنه يفعل ذلك. والثاني هو أن هذا السعي اللجوج انما هو يعيي بصائرنا عن أمور أكثر أهمية. فالسعي الى اكتشاف الكون يلهينا عن الحفاظ على ما نمتلكه وهو الأرض. مثل المستقبل الباهر الذي يحلم به الانسان كمثل دلو يحمله ويسعى الى ملئه بأسرع ما يكون, ولكن يخفى على الانسان أن هذا
الدلو مثقوب وأن كل ما يملؤه فيه انما هو هباء منثور. الأحرى بالانسان أن يصلح الثقب قبل السعي الى ملئ الدلو, أي اصلاح الأرض والحفاظ عليها قبل التفكير بغزو أي فضاء.

كان هذا الحديث عن العلم المادي أي السعي الى فهم الكون, وما هو الا مثال على ضرورة تقدم التأمل على العلم والمعرفة, والحقيقة هي أن هدفي لا يتناول العلم المادي بل هو أبسط من ذلك بكثير. انه يتناول الأفكار البسيطة التي نؤمن بها في حياتنا اليومية وفي معتقداتنا كمسلمات غير قابلة للنقاش. المصيبة الأولى هي أن معظم هذه المعتقدات لم نسع حتى اليها سعيا علميا يسلكه كل من يبحث عن الحقيقة, بل قد تم تلقيمنا اياها كما كانت هي حال أجدادنا, وصولا الى الأنس الذي وضعها اما بناءا على معطيات أو تبعا لأهوائه. وفي كلتا الحالتين فنحن لا نعلم كيف وضعها ولماذا, بل نؤمن بها كما لو كانت قوانين الهية. المصيبة الثانية هي كون معظم هذه المعتقدات تدميرية تحرض على الانقسام والصدام, والدلائل على ذلك لا تحصى في تاريخ البشرية, من صراعات كان أساسها عناد كل فريق على ما يملكه من معتقدات دون الاحتكام الى العقل والى التأمل في الظروف.

في النهاية قد أملك الجرأة للقول أني على يقين في هذا الموضوع. فالتأمل الكثير أجدى من العناد على ما نظن أننا نعلم, بل الذي يدعي أنه يعلم الحقيقة هو أقرب الى الجهل منه الى العلم. ولو تأملنا جيدا لأدركنا أنه للوصول الى يقين ما, فلا بد من اتباع الشك أولا, وللأسف فقد حل مكانه عند معظم البشر العناد ولا شيء غير العناد. مع الاشارة أني لا أشير الى ضرورة التمرد على كل ما نملك من معتقدات, بل الى ضرورة اخضاع هذه المعتقدات الى محاكم عقولنا لنتبين عندها مدى صدقيتها, والباطل يبين من النظرة الأولى.

يا بني الانسان ...
تأملوا جيدا تعلموا أنه ما من يقين في هذا العالم الا الله سبحانه وتعالى. أما بالنسبة للعلم, فأقربه الى الحقيقة هو الأكثر بناءا وبالطبع ليس الأكثر تدميرا. والسلام.

كتبت بتاريخ الخميس 13 تشرين الثاني نوفمبر 2008

مناقشة الموضوع
هنا

هناك تعليقان (2):

  1. سلام علي،
    عرفتك من مقال "نحو فهم القدر" انك مسلم من المنتدى،
    كيف احوالك؟
    أولاً، مبروك المدونة، وعسى أن تكون نافذة انطلاق وانماء لكل افكارك.
    قد لا نتفق فكرياً، لكن الاختلاف لا يفسد للود قضية.
    سأمرّ دوماً من هنا، ولن أوفر معارك فكرية طبعاً:)
    تقبل تحياتي عزيزي،
    سلام

    ردحذف
  2. سلام طوني,
    شكرا على تبريكك على المدونة ...
    طبيعي أن يكون في اختلاف فهذه
    هي سنة هذا العالم,
    ولكن المهم أن يكون هذا الاختلاف
    نقطة للبناء ...
    أنا بانتظار أي معارك فكرية :)
    وأعتقد أنه لا بد من هكذا معارك
    لتحقيق أي تطور فكري ...
    سلام

    ردحذف